كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الطَّلَاقَ مَرَّتَانِ وَأَنَّهُ يَكُونُ بِلَا عِوَضٍ وَقَدْ يَكُونُ بَعِوَضٍ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أَيْ: فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ طَلْقَةً ثَالِثَةً- وَهِيَ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ- فَلَا يَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا تَزَوَّجَتْ بِآخَرَ زَوَاجًا صَحِيحًا مَقْصُودًا حَصَلَ بِهِ مَا يُرَادُ بِالزَّوَاجِ مِنَ الْغِشْيَانِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: عَبَّرَ عَنِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ ب {إِنْ} دُونَ إِذَا لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ مُطْلَقًا، كَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَرْضَى أَنْ يَتَجَاوَزَ الطَّلَاقُ الْمَرَّتَيْنِ، وَالنِّكَاحُ لَهُ طَلَاقَانِ: الْعَقْدُ وَمَا وَرَاءَ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الَّذِي يُكْنَى عَنْهُ بِالدُّخُولِ. وَقَدْ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ إِلَى أَنَّ الْحَلَّ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، إِذْ قَالُوا: لابد مِنَ الْمُخَالَطَةِ الزَّوْجِيَّةِ أَخْذًا مِنْ إِسْنَادِ النِّكَاحِ إِلَى الْمَرْأَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَتَوَلَّى الْعَقْدَ، وَمِنْ تَسْمِيَةِ مَنْ تَنْكِحُ زَوْجًا. وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِحَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ الصَّحِيحِ وَالْمُنْطَبِقِ عَلَى الْحِكْمَةِ فِي مَنْعِ الْمُرَاجَعَةِ.
رَوَى الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي فَتَزَوَّجَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمَا مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» وَالْعُسَيْلَةُ كِنَايَةٌ عَنْ أَقَلِّ مَا يَكُونُ مِنْ تَغَشِّي الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ. وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ رِفَاعَةَ هَذِهِ وَاسْمُهَا عَائِشَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتِيكٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ وَهَبِ بْنِ عَتِيكٍ ابْنُ عَمِّهَا. وَسَاقَ الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، وَفِيهِ أَنَّهَا قَالَتْ: «إِنَّهُ طَلَّقَنِي- أَيْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ زَوْجَهَا الثَّانِيَ- قَبْلَ أَنْ يَمَسَّنِي أَفَأَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ؟ قَالَ: لَا حَتَّى يَمَسَّ».
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْفُقَهَاءُ فِي حِكْمَةِ ذَلِكَ: إِنَّهُ إِذَا عَلِمَ الرَّجُلُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِلَّا إِذَا نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يَرْتَدِعُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا تَأْبَاهُ غَيْرَةُ الرِّجَالِ وَشَهَامَتُهُمْ، وَلاسيما إِذَا كَانَ الزَّوْجُ الْآخَرُ عَدُوًّا أَوْ مُنَاظِرًا لِلْأَوَّلِ، وَلَنَا أَنْ نَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ ثُمَّ يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهَا فَيَرْتَجِعُهَا نَادِمًا عَلَى طَلَاقِهَا، ثُمَّ يَمْقُتُ عِشْرَتَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيُطَلِّقُهَا، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ وَيَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ عَدَمُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا فَيَرْتَجِعُهَا ثَانِيَةً، فَإِنَّهُ يَتِمُّ لَهُ بِذَلِكَ اخْتِبَارُهَا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ رُبَّمَا جَاءَ عَنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ تَامَّةٍ وَمَعْرِفَةٍ صَحِيحَةٍ مِنْهُ بِمِقْدَارِ حَاجَتِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ الثَّانِيَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ النَّدَمِ عَلَى مَا كَانَ أَوَّلًا وَالشُّعُورِ بِأَنَّهُ كَانَ خَطَأً، وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ الِاخْتِبَارَ يَتِمُّ بِهِ، فَإِذَا هُوَ رَاجَعَهَا بَعْدَهُ كَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِإِمْسَاكِهَا عَلَى تَسْرِيحِهَا، وَيَبْعُدُ أَنْ يَعُودَ إِلَى تَرْجِيحِ التَّسْرِيحِ بَعْدَ أَنْ رَآهُ بِالِاخْتِبَارِ التَّامِّ مَرْجُوحًا، فَإِنْ هُوَ عَادَ وَطَلَّقَ ثَالِثَةً كَانَ نَاقِصَ الْعَقْلِ وَالتَّأْدِيبِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ تُجْعَلَ الْمَرْأَةُ كُرَةً بِيَدِهِ يَقْذِفُهَا مَتَى شَاءَ تَقَلُّبُهُ وَيَرْتَجِعُهَا مَتَى شَاءَ هَوَاهُ، بَلْ يَكُونُ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنْ تَبِينَ مِنْهُ وَيَخْرُجَ أَمْرُهَا مِنْ يَدِهِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنْ لَا ثِقَةَ بِالْتِئَامِهَا وَإِقَامَتِهِمَا حُدُودَ اللهِ تَعَالَى، فَإِنِ اتَّفَقَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ آخَرَ عَنْ رَغْبَةٍ وَاتَّفَقَ أَنْ طَلَّقَهَا الْآخَرُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا، ثُمَّ رَغِبَ فِيهَا الْأَوَّلُ وَأَحَبَّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا- وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا صَارَتْ فِرَاشًا لِغَيْرِهِ- وَرَضِيَتْ هِيَ بِالْعُودِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الرَّجَاءَ فِي الْتِئَامِهِمَا وَإِقَامَتِهِمَا حُدُودَ اللهِ تَعَالَى يَكُونُ حِينَئِذٍ قَوِيًّا جِدًّا، وَلِذَلِكَ أَحَلَّتْ لَهُ بَعْدَ الْعِدَّةِ، وَقَدْ شَرَحْنَا الْحِكْمَةَ بِنَاءً عَلَى مَا فَسَّرْنَا بِهِ كَوْنَ الطَّلَاقِ مَرَّتَيْنِ، وَكَوْنَ النِّكَاحِ لِزَوْجٍ آخَرَ هُوَ مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ وَهُوَ الْحَقُّ.
{فَإِنْ طَلَّقَهَا} الزَّوْجُ الثَّانِي {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أَيِ: الزَّوْجِ الثَّانِي وَالْمَرْأَةِ {أَنْ يَتَرَاجَعَا} هَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ خِلَافًا لِلْجَلَالِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْقَائِلِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ وَالْمَرْأَةُ، قَالَ وَحِكْمَتُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} هِيَ إِزَالَةُ وَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ يَكُونُ أَحَقَّ بِهَا وَلَا تَظْهَرُ لَنَا حِكْمَةٌ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُرَادَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ وَالْمَرْأَةُ. وَعَلَى كُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ لابد فِي التَّرَاجُعِ مِنْ مُرَاعَاةِ شَرْطِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} أَيْ: تَرَجَّحَ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ يَقُومُ بِحَقِّ الْآخَرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَدَّهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى، فَلابد مِنْ حُسْنِ الْقَصْدِ وَسَلَامَةِ النِّيَّةِ مِنْ كِلَا الزَّوْجَيْنِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مَا وَضَعَ هَذِهِ الْحُدُودَ لِلزَّوْجَيْنِ إِلَّا لِيَصْلُحَ حَالُهُمَا وَيَسْتَقِيمَ عَمَلُهُمَا، فَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ نِيَّةُ سُوءٍ فَإِنَّ هَذَا التَّرَاجُعَ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ صَحَّ عِنْدَ الْقَاضِي أَوِ الْمُفْتِي عَمَلًا بِالظَّاهِرِ، وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الظَّنَّ هُنَا بِالْعِلْمِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ لُغَةً وَلَا فِعْلًا إِذْ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ بِالْيَقِينِ كَيْفَ يُعَامَلُ الْآخَرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَيَكْفِي أَنْ يَنْوِيَ إِقَامَةَ الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَيَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْقُدْرَةُ عَلَى تَنْفِيذِ مَا نَوَاهُ، قَالَ: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى الْأَحْكَامِ فِي الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ يُبَيِّنُهَا فِي كِتَابِهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِفَائِدَتِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَمَنْ عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِي شَيْءٍ كَانَ مُنْدَفِعًا بِطَبْعِهِ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ وَإِقَامَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَتَحَقَّقُ بِهِ الْفَائِدَةُ مِنْهُ، يُبَيِّنُهَا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَائِقَ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَهَا، لَا مَنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ فَيَأْخُذُ بِظَاهِرِ قَوْلِ الْمُفْتِي أَوِ الْقَاضِي وَلَا يَجْعَلُ لِحُسْنِ النِّيَّةِ وَإِخْلَاصِ الْقَلْبِ مُدْخَلًا فِي عَمَلِهِ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْمَرْأَةِ وَيُضْمِرُ لَهَا السُّوءَ وَيَبْغِيهَا الِانْتِقَامَ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى هَذِهِ الْحُدُودِ فِي تَفْسِيرِ {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} فَارْجِعْ إِلَيْهِ إِنْ كُنْتَ نَسِيتَهُ.
أَلَا فَلْيَعْلَمْ كُلُّ مُسْلِمٍ أَنَّ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ النِّكَاحَ الَّذِي تَحِلُّ بِهِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا هُوَ مَا كَانَ زَوَاجًا صَحِيحًا عَنْ رَغْبَةٍ، وَقَدْ حَصَلَ بِهِ مَقْصُودُ النِّكَاحِ لِذَاتِهِ، فَمَنْ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مُطَلَّقَةٍ ثَلَاثًا بِقَصْدِ إِحْلَالِهَا لِلْأَوَّلِ كَانَ زَوَاجُهُ صُورِيًّا غَيْرَ صَحِيحٍ، وَلَا تَحِلُّ بِهِ الْمَرْأَةُ لِلْأَوَّلِ، بَلْ هُوَ مَعْصِيَةٌ لَعَنَ الشَّارِعُ فَاعِلَهَا، وَهُوَ لَا يَلْعَنُ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا مَشْرُوعًا وَلَا مَكْرُوهًا فَقَطْ، بَلِ الْمَشْهُورُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ اللَّعْنَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى كَبَائِرِ الْمَعَاصِي، فَإِنْ عَادَتْ إِلَيْهِ كَانَتْ حَرَامًا، وَمِثَالُ ذَلِكَ مِثَالُ مَنْ طَهَّرَ الدَّمَ بِالْبَوْلِ؛ وَهُوَ رِجْسٌ عَلَى رِجْسٍ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَخَلَائِقُ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ نِكَاحَ التَّحْلِيلِ شَرٌّ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَأَشَدُّ فَسَادًا وَعَارًا.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ جَائِزٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ مَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالظَّوَاهِرِ لَا بِالْمَقَاصِدِ وَالضَّمَائِرِ، نَقُولُ: نَعَمْ؛ وَلَكِنَّ الدِّينَ الْقَيِّمَ هُوَ أَنْ يَكُونَ الظَّاهِرُ عُنْوَانَ الْبَاطِنِ وَإِلَّا كَانَ نِفَاقًا، عَلَى أَنَّ بَاغِيَ التَّحْلِيلِ لَيْسَ بِمُتَزَوِّجٍ حَقِيقَةَ الزَّوَاجِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ وَبَيَّنَهُ لَا عِنْدَ نَفْسِهِ وَلَا عِنْدَ مَنْ أَرَادَهُ عَلَى التَّحْلِيلِ وَتَوَاطَأَ مَعَهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عُذِرَ الْقَاضِي الْمُنَفِّذُ لَهُ بِجَهْلِهِ لِلْوَاقِعِ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ، فَلَا يُعْذَرُ بِهِ الْعَالِمُ بِهِ وَالْمُقْتَرِفُ لَهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ أَتَمَّ الْإِيضَاحِ وَمِنْ غَرَائِبِ الِانْتِصَارِ لِلتَّقْلِيدِ أَنِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ كَالألوسي عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ بِتَسْمِيَتِهِ مُحَلِّلًا فِي الْحَدِيثِ النَّاطِقِ بِتَحْرِيمِ التَّحْلِيلِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ بِذَلِكَ مَنْ أَرَادُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَبَعْدَ التَّسْمِيَةِ سُئِلَ عَنْهُ الشَّارِعُ فَلَمْ يُجِزْ عَمَلَهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ حِكَايَةُ لَفْظِ الِاسْمِ مُبْطِلَةً لِمَضْمُونِ الْحُكْمِ، فَالنَّاسُ هُمُ الَّذِينَ سَمَّوْا، وَالشَّارِعُ هُوَ الَّذِي حَرَّمَ، كَمَا تَرَى فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآتِي، وَإِنَّنَا نُثْبِتُ هُنَا مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ فِي الزَّوَاجِرِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي تَحْرِيمِ التَّحْلِيلِ قَالَ: أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ عُمَرُ وَابْنُهُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ مِنَ التَّابِعِينَ. وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْجَوْزَجَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُحَلِّلِ فَقَالَ: لَا، إِلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ، لَا دُلْسَةٍ وَلَا اسْتِهْزَاءٍ بِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ تَذُوقُ الْعُسَيْلَةَ».
وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْأَثْرَمُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أُوتَي بِمُحَلِّلٍ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إِلَّا رَجَمْتُهُمَا» فَسُئِلَ ابْنُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كِلَاهُمَا زَانٍ، وَسَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجْتُهَا لِأُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا لَمْ يَأْمُرْنِي وَلَمْ يَعْلَمْ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: لَا، إِلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ إِنْ أَعْجَبَتْكَ أَمْسَكْتَهَا، وَإِنْ كَرِهْتَهَا فَارَقْتَهَا، وَإِنْ كُنَّا لَنَعُدَّ هَذَا سِفَاحًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسُئِلَ عَنْ تَحْلِيلِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا فَقَالَ: ذَلِكَ هُوَ السِّفَاحُ وَعَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ ابْنَةَ عَمِّهِ ثُمَّ نَدِمَ وَرَغِبَ فِيهَا فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ لِيُحِلَّهَا لَهُ فَقَالَ: كِلَاهُمَا زَانٍ وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا، إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ نَدِمَ فَقَالَ: هُوَ رَجُلٌ عَصَى اللهَ فَأَنْدَمَهُ وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، فَقِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ يُحِلُّهَا لَهُ؟ فَقَالَ: مَنْ يُخَادِعِ اللهَ يَخْدَعْهُ اهـ.
وَأَنْتَ تَرَى مَعَ هَذَا أَنَّ رَذِيلَةَ التَّحْلِيلِ قَدْ فَشَتْ فِي الْأَشْرَارِ الَّذِينَ جَعَلُوا رُخْصَةَ الطَّلَاقِ عَادَةً وَمَثَابَةً، وَلاسيما مَعَ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ بِأَنَّ الطَّلَاقَ مَرَّةً وَاحِدَةً بِلَفْظِ الثَّلَاثِ يَقَعُ ثَلَاثًا، اتَّخَذَ غَوْغَاءُ الْمُسْلِمِينَ دِينَهُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا، فَصَارَ الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ يُعَابُ بِهِمْ وَمَا عَيْبُهُ سِوَاهُمْ، وَقَدْ رَأَيْتُ فِي لُبْنَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا وَلِعَ بِشِرَاءِ الْكُتُبِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَأَكْثَرَ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا، فَاهْتَدَى إِلَى حَقِّيَّةِ الْإِسْلَامِ مَعَ الْمَيْلِ إِلَى التَّصَوُّفِ، فَأَسْلَمَ، وَقَالَ لِي: لَمْ أَجِدْ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ ثَلَاثَةِ عُيُوبٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اللهِ. أَقْبَحُهَا مَسْأَلَةُ التَّجْحِيشِ أَيِ: التَّحْلِيلُ فَبَيَّنْتُ لَهُ الْحَقَّ فِيهَا فَاقْتَنَعَ.
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
هَذَا حُكْمٌ جَدِيدٌ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ لِلْوَاجِبِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُطَلَّقَاتِ وَنَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ وَوَعِيدٌ عَلَى هَذَا الضِّدِّ وَإِرْشَادٌ إِلَى الْمَصْلَحَةِ، وَالْحِكْمَةِ فِي الِائْتِمَارِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَالِانْتِهَاءِ عَنْ هَذَا النَّهْيِ. وَتِلْكَ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الطَّلَاقِ الْمَشْرُوعِ وَعَدَدِهِ وَكَوْنِ الْأَصْلِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَوْنِ أَخْذِ الْعِوَضِ مِنَ الْمَرْأَةِ لَا يَحِلُّ إِلَّا بِشَرْطٍ. وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا وَهُوَ أَلْيَقُ بِهَذِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلَّهَا نَزَلَتْ فِي إِبْطَالِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ سُوءِ مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ فِي الطَّلَاقِ، فَجَمِيعُ الْوَقَائِعِ الَّتِي كَانَتْ تَقَعُ عَلَى الْعَادَاتِ كَانَتْ تُعَدُّ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ لَهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ هَذِهِ مَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ فِي مَعْنَى رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَالْحَاكِمِ هُنَاكَ قَالَ: أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ يُضَارُّهَا وَيَعْضُلُهَا فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَخْرَجَ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يُدْعَى ثَابِتَ بْنَ يَسَارٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا إِلَّا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا مُضَارَّةً فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}. اهـ.
وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ} نَزَلَ وَحْدَهُ، بَلِ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي مَجْمُوعِ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَسَائِلِ الطَّلَاقِ، نَزَلَتْ كُلُّهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِيمَا يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِهَا، وَلَكِنْ بَعْدَ وُقُوعِ حَوَادِثَ جَعَلَتْ مِنْ أَسْبَابِهَا.
الْأَجَلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} هُوَ زَمَنُ الْعِدَّةِ وَمَعْنَى {بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}.
قَارَبْنَ إِتْمَامَ الْعِدَّةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا إِجْمَاعٌ لَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنَ الْآيَةِ غَيْرَهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ تَجَوُّزًا قَرِينَتُهُ الْعُرْفُ، يَقُولُ الْمُسَافِرُ: بَلَغْنَا الْبَلَدَ أَوْ وَصَلْنَا إِلَيْهِ إِذَا دَنَا مِنْهُ وَشَارَفَهُ. وَقَوْلُهُ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} مَعْنَاهُ: فَاعْزِمُوا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ- إِمْسَاكَ الْمَرْأَةِ بِالْمُرَاجَعَةِ أَوْ إِطْلَاقَ سَبِيلِهَا- وَلْيَكُنْ مَا تَخْتَارُونَهُ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي شَرَعَ لَكُمْ فِي آيَةِ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} أَيْ: وَلَا تُرَاجِعُوهُنَّ إِرَادَةَ مُضَارَّتِهِنَّ وَإِيذَائِهِنَّ لِلِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِنَّ بِتَعَمُّدِ ذَلِكَ، فَالضِّرَارُ بِمَعْنَى الضَّرَرِ، وَذُكِرَ بِالصِّيغَةِ الَّتِي تَأْتِي لِلْمُشَارَكَةِ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ ضُرَّهُ إِيَّاهَا يَسْتَلْزِمُ ضُرَّهَا إِيَّاهُ، فَالرِّجَالُ يَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِإِيذَاءِ النِّسَاءِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} فِي الدُّنْيَا بِسُلُوكِ طُرُقِ الشَّرِّ وَالِاعْتِدَاءِ الَّتِي لَا رَاحَةَ لِضَمِيرِ صَاحِبِهَا، وَيَجْعَلُ الْمَرْأَةَ وَعُصْبَتَهَا أَعْدَاءً لَهُ يُنَاصِبُونَهُ وَيُنَاوِئُونَهُ، وَالْعَدُوُّ الْقَرِيبُ أَقْدَرُ عَلَى الْإِيذَاءِ مِنَ الْعَدُوِّ الْبَعِيدِ. وَبِتَنْفِيرِ النَّاسِ مِنْهُ حَتَّى يُوشِكَ أَلَّا يُصَاهِرَهُ أَحَدٌ، وَظَلَمَ نَفْسَهُ فِي الْأُخْرَى أَيْضًا بِمَا خَالَفَ أَمْرَ اللهِ وَتَعَرَّضَ لِسَخَطِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا} وَهَذَا وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ، وَتَهْدِيدٌ لِمَنْ يَتَعَدَّى حُدُودَ اللهِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَيَّ تَهْدِيدٍ، وَالسَّبَبُ فِيهِ حَمْلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى احْتِرَامِ صِلَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَتَوَقِّي مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَدْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ النِّسَاءَ لَعِبًا، وَيَعْبَثُونَ بِطَلَاقِهِنَّ وَإِمْسَاكِهِنَّ عَبَثًا، وَفِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي مَسْنَدِهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ، ثُمَّ يَقُولُ: لَعِبْتُ، وَيَعْتِقُ ثُمَّ يَقُولُ: لَعِبْتُ، فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا} أَيْ: أَنْزَلَهُ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ آيَاتِ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ، لَا أَنَّهُ أَنْزَلَهُ عَلَى حِدَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي نَظِيرِهِ، وَالْمَعْنَى لَا تَتَهَاوَنُوا بِحُدُودِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي شَرَعَهَا لَكُمْ فِي آيَاتِهِ جَرْيًا عَلَى سَنَنِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَإِنَّ هَذَا التَّهَاوُنَ وَالِاعْتِدَاءَ لِلْحُدُودِ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ وَالتَّأْكِيدِ مِنَ اللهِ تَعَالَى يُعَدُّ اسْتِهْزَاءً بِآيَاتِهِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْمُسْتَغْفِرُ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يُخَالِفُ أَمْرَ اللهِ وَيَنْقُضُ هَذِهِ الْعُهُودَ بَعْدَ تَوْثِيقِهَا طَلَبًا لِشَهْوَةٍ مِنْ شَهَوَاتِهِ، أَوِ اسْتِمْسَاكًا بِعَادَةٍ مِنْ عَادَاتِهِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُعَدَّ مُسْتَهْزِئًا بِآيَاتِ اللهِ غَيْرَ مُذْعِنٍ لَهَا.
بَعْدَ التَّحْذِيرِ مِنَ التَّهَاوُنِ بِحُقُوقِ النِّسَاءِ وَجَعْلِ الْعَابِثِ بِأَحْكَامِ اللهِ فِيهَا مُسْتَهْزِئًا بِآيَاتِهِ- وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْوَعِيدِ وَالتَّرْهِيبِ مَا فِيهِ- أَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُقَرِّرَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ فِي النُّفُوسِ بِبَاعِثِ التَّرْغِيبِ فِيهَا بِالتَّذْكِيرِ بِفَوَائِدِهَا وَمَزَايَاهَا، وَبَيَانِ الْمِنَّةِ فِي هِدَايَةِ الدِّينِ الَّتِي هِيَ مِنْهَا فَقَالَ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} أَيِ: امْتَثِلُوا مَا ذَكَرَ آنِفًا مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَتَذَكَّرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ فِي الرَّابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [30: 21] وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْكُمْ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْمُكَمِّلَةِ لِلْفِطْرَةِ فِي الزَّوْجِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ فِيهَا حَالَ كَوْنِهِ يَعِظُكُمْ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا- أَيِ: الْأَحْكَامِ وَحِكْمَتِهَا- فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ مَعَ حِكْمَتِهِ هِيَ الَّتِي تُحْدِثُ الْعِظَةَ وَالْعِبْرَةَ الْبَاعِثَةَ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ النَّفْسِيَّةُ هِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا}.
وَقَدْ أَفْسَدَ عَلَى النَّاسِ تِلْكَ الْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ، وَحَجَبَهُمْ عَنِ الْمَوْعِظَةِ بِالْحِكْمَةِ، وَأَضْعَفَ فِي نُفُوسِ الْأَزْوَاجِ ذَلِكَ السُّكُونَ وَالِارْتِيَاحَ، غُرُورُ الرِّجَالِ بِالْقُوَّةِ وَطُغْيَانُهُمْ بِالْغِنَى، وَكُفْرَانُ النِّسَاءِ لِنِعْمَةِ الرِّجَالِ وَحِفْظُ سَيِّئَاتِهِمْ، وَتَمَادِيهِنَّ فِي الذَّمِّ لَهَا وَالتَّبَرُّمِ بِهَا، وَمَا مَضَتْ بِهِ عَادَاتُ الْجَاهِلِيَّةِ فِي بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَعَادَاتُ التَّفَرْنُجِ فِي الْمُعَاصِرَاتِ وَالْمُعَاصِرِينَ، وَقَلَّدَ بِهِ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَّرَنَا أَوَّلًا بِنِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي أَنْفُسِنَا لِنُزِيحَ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مَا غَشِيَهَا بِسُوءِ الْقُدْوَةِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَنَشْكُرَهَا لَهُ سُبْحَانَهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِتَمْكِينِ صِلَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَاحْتِرَامِهَا وَتَوْثِيقِهَا، وَثَانِيًا بِهَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ الَّذِي هَدَانَا إِلَى ذَلِكَ، وَحَدَّ لَنَا كِتَابُهُ الْحُدُودَ وَوَضَعَ الْأَحْكَامَ مُبَيِّنًا حُكْمَهَا وَأَسْرَارَهَا، مُؤَيِّدًا لَهَا بِالْوَعْظِ السَّائِقِ إِلَى اتِّبَاعِهَا.
وَمَا ذَكَرْنَا بِالْكِتَابِ هُنَا إِلَّا لِنَجْعَلَهُ إِمَامًا لَنَا فِي تَقْوِيمِ الْفِطْرَةِ عَلَى مَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَعَزَّزَتْهُ الْحِكْمَةُ، وَلَكِنَّنَا قَدْ أَعْرَضْنَا عَنْهُ، فَمَنْ نَظَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِيمَا كَتَبَهُ بَعْضُ الْبَشَرِ مِمَّا هُوَ خُلُوٌّ مِنْ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، غَيْرُ مَقْرُونٍ بِشَيْءٍ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، فَهُوَ لَا يُحْدِثُ لِلنُّفُوسِ عِظَةً وَلَا ذِكْرَى، وَلَا يَبْعَثُ فِي الْقُلُوبِ هِدَايَةً وَلَا تَقْوَى، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَنْظُرُ فِيهَا، وَلَا يَسْأَلُ الْعَارِفِينَ بِهَا عَنْهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى حُقُوقٍ يَهْضِمُهَا، أَوْ صِلَاتٍ يَقْطَعُهَا وَعُرًى يَفْصِمُهَا، فَهُوَ يَسْتَفْتِي غَالِبًا لِيَأْمَنَ مُؤَاخَذَةَ الْحُكَّامِ لَا لِيُقِيمَ حُدُودَ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا قَامَ فِيهِمْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى اللهِ، وَيُذَكِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِآيَاتِ اللهِ رَمَاهُ الرُّؤَسَاءُ بِسِهَامِ الْمَلَامِ، وَأَغْرَوْا بِهِ السَّاسَةَ وَأَهَاجُوا عَلَيْهِ الْعَوَامَّ، خَائِفِينَ أَنْ يُحْيِيَ مَا أَمَاتُوهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يُبْطِلُ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ، عَلَى أَنَّ التَّذْكِيرَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي عِلْمَ الْمُجْتَهِدِينَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُذَكِّرِينَ بِهِ وَمُبَيِّنِينَ، لَا صَادِّينِ عَنْهُ وَلَا نَاسِخِينَ، وَمَا كُلُّ مَنِ اهْتَدَى بِهَدْيِهِمْ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّبْيِينِ يَلْحَقُهُمْ فِي الِاسْتِنْبَاطِ وَالتَّدْوِينِ. فَيَا أَيُّهَا الْعُلَمَاءُ أَحْيُوا كِتَابَ اللهِ، فَوَاللهِ إِنَّهُ لَا حَيَاةَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِسِوَاهُ؛ وَلِذَلِكَ عَادَتْ بِتَرْكِ هَدْيِهِ إِلَى عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهَا مِنْ إِبَاحِيَّةِ الْإِفْرِنْجِ الْعَصْرِيَّةِ، اتِّبَاعًا لِلْهَوَى وَنَزَغَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ.
هَذَا وَإِنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرُوا نِعْمَةَ اللهِ هُنَا بِالدِّينِ وَالرِّسَالَةِ، وَجَعَلُوا مَا أُنْزِلَ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ تَفْصِيلًا لِلنِّعْمَةِ الْمُجْمَلَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ} بِإِرْسَالِ هَذَا الرَّسُولِ، وَبَيَانِ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي تَحْفَظُ لَكُمُ الْهَنَاءَةَ فِي الدُّنْيَا، وَتَضْمَنُ لَكُمُ السَّعَادَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَذَكَرَ أَنَّ مَا بَعْدَ هَذَا تَفْصِيلٌ لَهُ، وَفَسَّرَ الْحِكْمَةَ بِسِرِّ الْكِتَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي النِّعْمَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهِيَ هَذِهِ الرَّحْمَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَامْتَنَّ بِهَا عَلَيْنَا فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلَ بَيْنِكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [30: 21] وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذَا الْوَجْهَ أَوَّلًا بِالْبَيَانِ وَالتَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ النِّعْمَةَ هُنَا عَامَّةٌ تَشْمَلُ نِعَمَ الدُّنْيَا وَالدِّينَ.
{وَاتَّقُوا اللهَ} أَمَرَ بَعْدَ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالتَّشْدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ بِتَقْوَاهُ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ زِيَادَةً فِي الْعِنَايَةِ بِأَمْرِ النِّسَاءِ وَصِلَةِ الزَّوْجِيَّةِ- وَهُوَ مَا تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ- مُقَاوَمَةً لِمَا مَلَكَ النُّفُوسَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِعَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ، إِذْ كَانُوا يَرَوْنَهُ كَعَقْدِ الرِّقِّ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِي الْمَتَاعِ الْخَسِيسِ وَالنَّفِيسِ، بَلْ كَانُوا يَرَوْنَهُ دُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ يَشْتَرِي مَتَاعًا ثُمَّ يَرْمِي بِهِ فِي الطَّرِيقِ زُهْدًا فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ يُمْسِكُ قِنَّهُ لِيُعَذِّبَهُ وَيَنْتَقِمَ بِهِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يُطَلِّقُونَ الْمَرْأَةَ لِأَدْنَى سَبَبٍ- كَالْمَلَلِ وَالْغَضَبِ- ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَيْهَا، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَكَانُوا يُمْسِكُونَهَا لِلضِّرَارِ وَالْإِهَانَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَقَدْ يَسْتَبْدِلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمُ امْرَأَةَ الْآخَرِ بِامْرَأَتِهِ، فَاعْتِيَادُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ السُّوءَى وَالْأُنْسُ بِهَا لَا تَكُونُ مُقَاوَمَتُهُ إِلَّا بِتَعْظِيمِ شَأْنِ عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي تَأْكِيدِهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ؛ إِذْ لَا يَسْهُلُ عَلَى الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يَرَى الْمَرْأَةَ مِثْلَ الْأَمَةِ أَوْ دُونَهَا أَنْ يُسَاوِيَهَا بِنَفْسِهِ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ، وَيَرَى لَهَا عَلَيْهِ مِثْلَ مَا لَهُ عَلَيْهَا، وَيَحْظُرُ عَلَى نَفْسِهِ مُضَارَّتَهَا وَإِيذَاءَهَا وَيَلْتَزِمُ مُعَامَلَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ فِي حَالِ إِمْسَاكِهَا عِنْدَهُ، وَفِي حَالِ تَسْرِيحِهَا إِنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْعِظَاتِ وَالتَّشْدِيدَاتِ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْإِقْنَاعِ وَبَيَانِ الْمَصْلَحَةِ هِيَ الَّتِي تَعْمَلُ فِي نَفْسِهِ، وَتُؤَثِّرُ بِتَكْرَارِهَا فِي قَلْبِهِ، وَإِنْ كَانَ كَالْحِجَارَةُ فِي الْقَسْوَةِ:
أَمَّا تَرَى الْحَبْلَ بِتَكْرَارِهِ ** فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ قَدْ أَثَّرَا

نَعَمْ إِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ أَحْسَنُ التَّأْثِيرِ فِي أُولَئِكَ الْخَارِجِينَ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى نُورِ الْإِسْلَامِ، وَفِيمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ، وَجَهِلُوا مَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، حَتَّى صَارُوا شَرًّا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَسَائِرُ الْأُمَمِ مِنْ ظُلْمِ النِّسَاءِ، فَلَمْ يَتَّقُوا اللهَ فِي ذَلِكَ وَلَا تَدَبَّرُوا قَوْلَهُ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَهُوَ أَبْلَغُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّأْكِيدِ وَالتَّشْدِيدِ فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُرَاعِي الْأَحْكَامَ الظَّاهِرَةَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ بِغَيْرِ إِخْلَاصٍ فَيُطَبِّقُ الْعَمَلَ عَلَى الْحُكْمِ عَلَى وَجْهٍ يَعْلَمُ أَنَّ مِنْ وَرَائِهِ ضَرَرًا، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تُذَكِّرُهُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يُسِرُّهُ الْعَبْدُ أَوْ يُعْلِنُهُ، فَلَا يُرْضِيهِ إِلَّا الْتِزَامُ حُدُودِهِ وَالْعَمَلُ بِأَحْكَامِهِ، مَعَ الْإِخْلَاصِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ، حَتَّى يَكُونَ ظَاهِرُهُ كَبَاطِنِهِ فِي الْخَيْرِ، وَلَا يَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَمَلِهِ، وَالْعِلْمِ الْيَقِينِ بِأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ فِيهِ، لَا يُبَيِّتُ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، وَلَا يَنْوِي خَيْرًا أَوْ شَرًّا، وَلَا يَطُوفُ فِي ذِهْنِهِ خَاطِرٌ، وَلَا تَخْتَلِجُ فِي قَلْبِهِ خَلْجَةٌ إِلَّا وَهُوَ سُبْحَانُهُ عَالَمٌ بِذَلِكَ وَمُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، فَلَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى مَرْضَاةِ رَبِّهِ إِلَّا بِتَطْهِيرِ قَلْبِهِ، وَإِخْلَاصِ نِيَّتِهِ فِي مُعَامَلَةِ زَوْجِهِ وَفِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: مَنْ حَسُنَتْ نِيَّتُهُ حَسُنَ عَمَلُهُ غَالِبًا بَلْ كَانَ مُوَفَّقًا دَائِمًا.
أَقُولُ: وَمِنَ التَّوْفِيقِ أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنْ خَطَئِهِ الَّذِي لَمْ يُرِدْ بِهِ سُوءًا، فَيَعْرِفَ كَيْفَ يَتَوَقَّى مِثْلَ هَذَا الْخَطَأِ، وَيَزْدَادَ بَصِيرَةً فِي الْخَيْرِ، فَلْيَزْنِ الْمُؤْمِنُونَ أَنْفُسَهُمْ بِمِيزَانِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَمْثَالِهَا وَهِيَ الْمَوَازِينُ الْقِسْطُ؛ لِيَعْلَمُوا أَنَّ مَنْشَأَ فَسَادِ الْبُيُوتِ وَشَقَاءِ الْمَعِيشَةِ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ هَدْيِ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى السَّعَادَةِ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَفَّقَنَا اللهُ لِذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} الْأَجَلُ: آخِرُ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ لَا قُرْبُهَا كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: دَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامَيْنِ عَلَى افْتِرَاقِ الْبُلُوغَيْنِ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِمْسَاكَ بِمَعْرُوفٍ وَالتَّسْرِيحَ بِمَعْرُوفٍ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لَا يَتَأَتَّى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ انْقِضَاءَهَا إِمْضَاءٌ لِلتَّسْرِيحِ، لَا مَحَلَّ مَعَهُ لِلتَّخْيِيرِ، وَإِنَّمَا التَّخْيِيرُ يَسْتَمِرُّ إِلَى قُرْبِ انْقِضَائِهَا، وَالنَّهْيُ عَنِ الْعَضْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِبُلُوغِ الْأَجَلِ انْقِضَاؤُهَا إِذْ لَا مَحَلَّ لِلْعَضَلِ قَبْلَهُ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} حُكْمٌ جَدِيدٌ غَيْرُ الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ هُوَ تَحْرِيمُ الْعَضَلِ؛ أَيْ: مَنْعُ الْمَرْأَةِ مِنَ الزَّوَاجِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَتَحَكَّمَ الرِّجَالُ فِي تَزْوِيجِ النِّسَاءِ إِذْ لَمْ يَكُنْ يُزَوِّجُ الْمَرْأَةَ إِلَّا وَلِيُّهَا، فَقَدْ يُزَوِّجُهَا بِمَنْ تَكْرَهُ وَيَمْنَعُهَا مِمَّنْ تُحِبُّ لِمَحْضِ الْهَوَى، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الرِّجَالَ الْمُطَلِّقِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، يَتَحَكَّمُ الرَّجُلُ بِمُطَلَّقَتِهِ فَيَمْنَعُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ أَنَفَةً وَكِبَرًا أَنْ يَرَى امْرَأَتَهُ تَحْتَ غَيْرِهِ، فَكَانَ يَصُدُّ عَنْهَا الْأَزْوَاجَ بِضُرُوبٍ مِنَ الصَّدِّ وَالْمَنْعِ، كَمَا كَانَ يُرَاجِعُهَا فِي آخِرِ الْعِدَّةِ لِأَجْلِ الْعَضَلِ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْإِسْلَامُ الْوِلَايَةَ لِلْأَقْرَبِينَ وَحَرَّمَ الْعَضَلَ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الزَّوَاجِ، وَأَنْ يُزَوِّجَ الْوَلِيُّ الْمَرْأَةَ بِدُونِ إِذْنِهَا، فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْخِطَابِ هُنَا، فَقِيلَ: هُوَ لِلْأَزْوَاجِ، أَيْ لَا تَعْضُلُوا مُطَلَّقَاتِكُمْ أَيُّهَا الْأَزْوَاجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ، وَاضْطُرَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى جَعْلِ الْأَزْوَاجِ بِمَعْنَى الرِّجَالِ الَّذِينَ سَيَكُونُونَ أَزْوَاجًا، وَقِيلَ: هُوَ لِلْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلِيَاءِ عَلَى التَّوْزِيعِ، وَقَالُوا: لَا بَأْسَ بِالتَّفْكِيكِ فِي الضَّمَائِرِ لِظُهُورِ الْمُرَادِ وَعَدَمِ الِاشْتِبَاهِ، وَقِيلَ: لِلْأَوْلِيَاءِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ فِي الصَّحِيحِ، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ شَتَّى مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: «كَانَ لِي أُخْتٌ فَأَتَانِي ابْنُ عَمٍّ لِي فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ فَكَانَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً وَلَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، فَهَوِيَهَا وَهَوِيَتْهُ، ثُمَّ خَطَبَهَا مَعَ الْخُطَّابِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا لُكَعُ أَكْرَمْتُكَ بِهَا وَزَوَّجْتُكَهَا فَطَلَّقْتَهَا ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا؟ وَاللهِ لَا تَرْجِعُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَعَلِمَ اللهُ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا وَحَاجَتَهَا إِلَى بَعْلِهَا فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ: فَفِيَّ نَزَلَتْ فَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ» وَفِي لَفْظٍ: «فَلَمَّا سَمِعَهَا مَعْقِلٌ قَالَ: سَمْعًا لِرَبِّي وَطَاعَةً، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: أُزَوِّجُكَ وَأُكْرِمُكَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ فَتَلَا عَلَيْهِ الْآيَةَ» وَمِنْ هُنَا تَعْرِفُ خَطَأَ مَنْ قَالَ: إِنَّ إِسْنَادَ النِّكَاحِ إِلَى النِّسَاءِ هُنَا يُفِيدُ أَنَّهُنَّ هُنَّ اللَّوَاتِي يَعْقِدْنَ النِّكَاحَ، فَإِنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ يُطْلَقُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ عَلَى مَنْ زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا، كَانُوا يَقُولُونَ: نَكَحَتْ فُلَانَةُ فُلَانًا، كَمَا يَقُولُونَ حَتَّى الْآنَ: تَزَوَّجَتْ فُلَانَةُ بِفُلَانٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَاقِدُ وَلِيَّهَا.
وَلَمْ تَكُنْ أُخْتُ مَعْقِلٍ حَاوَلَتْ أَنْ تَعْقِدَ عَلَى زَوْجِهَا فَمَنَعَهَا، وَإِنَّمَا طَلَبَهَا الزَّوْجُ مِنْهُ فَامْتَنَعَ أَنْ يُنْكِحَهُ إِيَّاهَا فَصَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنَعَهَا أَنْ تَنْكِحَ زَوْجَهَا، وَنَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ، وَفَهِمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ كَالْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ بِهَذَا الْمَعْنَى.
وَفِي الْخِطَابِ وَجْهٌ ثَالِثٌ رَجَّحَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا، وَسَبَقَ لَهُ مِثْلُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لِلْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُتَكَافِلَةٌ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ عَلَى حَسَبِ الشَّرِيعَةِ؛ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا وَقَعَ مِنْكُمْ تَطْلِيقٌ لِلنِّسَاءِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ وَأَرَادَ أَزْوَاجُهُنَّ أَوْ غَيْرُهُمْ أَنْ يَنْكِحُوهُنَّ وَأَرَدْنَ هُنَّ ذَلِكَ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ؛ أَيْ: لَا تَمْنَعُوهُنَّ مِنَ الزَّوَاجِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ حَظَّهُ مِنَ الْخِطَابِ لِلْمَجْمُوعِ، وَتَقَدَّمَ لِهَذَا الْخِطَابِ نَظَائِرُ، وَمِنْهَا خِطَابُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ بِمَا كَانَ مِنْ آبَائِهِمْ فِي زَمَنِ مُوسَى وَمَا بَعْدَهُ مُسْنَدًا إِلَيْهِمْ. وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا الْخِطَابِ الْعَامِّ هُنَا أَنْ يَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ عَلِمَ مِنْهُمْ بِوُقُوعِ الْمُنْكَرِ مِنْ أَوْلِيَاءِ النِّسَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَنْ يَنْهَوْهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا سَكَتُوا عَلَى الْمُنْكَرِ وَرَضُوا بِهِ يَأْثَمُونَ، وَالسِّرُّ فِي تَكَافُلِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْأَفْرَادَ إِذَا وُكِلُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَكَثِيرًا مَا يُرَجِّحُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَشَهَوَاتِهِمْ عَلَى الْحَقِّ وَالْمَصْلَحَةِ، ثُمَّ يَقْتَدِي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ مَعَ عَدَمِ النَّكِيرِ، فَيَكْثُرُ الشَّرُّ وَالْمُنْكَرُ فِي الْأُمَّةِ فَتَهْلِكُ، فَفِي التَّكَافُلِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ دِفَاعٌ عَنِ الْأُمَّةِ، وَلِكُلِّ مُكَلَّفٍ حَقٌّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَلَاءَ إِذَا وَقَعَ فَإِنَّهُ يُصِيبُهُ سَهْمٌ مِنْهُ. قَالَ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [5: 78، 79].
ثُمَّ قَالَ: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أَيْ: إِذَا تَرَاضَى مُرِيدُو التَّزَوُّجِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، بِأَنْ رَضِيَ كُلٌّ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِالْآخَرِ زَوْجًا. وَقَوْلُهُ: {بَيْنَهُمْ} يُشْعِرُ بِأَنْ لَا نُكْرَ فِي أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ إِلَى نَفْسِهَا وَيَتَّفِقُ مَعَهَا عَلَى التَّزَوُّجِ بِهَا وَيَحْرُمُ حِينَئِذٍ عَضَلُهَا، أَيِ امْتِنَاعُ الْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ التَّرَاضِي فِي الْخِطْبَةِ بِالْمَعْرُوفِ شَرَعًا وَعَادَةً بِأَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ مُحَرَّمٌ، وَلَا شَيْءٌ يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ وَيُلْحِقُ الْعَارَ بِالْمَرْأَةِ وَأَهْلِهَا، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْعَضَلَ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ كَأَنْ تُرِيدَ الشَّرِيفَةُ فِي قَوْمِهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِرَجُلٍ خَسِيسٍ يَلْحَقُهَا مِنْهُ الْغَضَاضَةُ، وَيَمَسُّ مَا لِقَوْمِهَا مِنَ الشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُصْرَفَ عَنْهُ بِالْوَعْظِ وَالنَّصِيحَةِ، وَيُجِيزُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْعَضْلَ إِذَا كَانَ الْمَهْرُ دُونَ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِذَا أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَلَمْ يَكُنِ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ فَسَادَ الْأَخْلَاقِ الْمُسْقِطِ لِلْكَرَامَةِ، أَوِ اتِّبَاعَ الْهَوَى وَإِرْضَاءَ الشَّهْوَةِ، بَلْ كَانَ مَيْلًا إِلَى رَجُلٍ مُسْتَقِيمٍ يُرْجَى مِنْهُ حُسْنُ الْعِشْرَةِ وَصَلَاحُ الْمَعِيشَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يَعْسُرُ عَلَيْهِ دَفَعُ مَهْرٍ كَثِيرٍ مَعَ نَفَقَاتِ الزَّوَاجِ الْأُخْرَى، فَلَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ الْعَضَلُ بَلْ يَجِبُ تَزْوِيجُهُ.
وَأَقُولُ: إِنَّ مَسْأَلَةَ مُرَاعَاةِ الْكَفَاءَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عُرْفٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ وَلاسيما الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ، وَلَا يُوجَدُ سَبَبٌ يَحْمِلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهِ كَالْعِشْقِ، فَكَمْ مِنْ مَلِكٍ أَوْ أَمِيرٍ تَزَوَّجَ رَاقِصَةً أَوْ مُغَنِّيَةً أَوْ مُمَثِّلَةً لِلْقِصَصِ لِعِشْقِهِ لَهَا وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَرْكِ الْمُلْكِ أَوِ اسْتِحْقَاقِهِ، وَإِنَّ مِنَ الْعِشْقِ مَا هُوَ مُسْقِطٌ لِلْكَرَامَةِ وَالشَّرَفِ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَالْأَوَّلُ يَعْذُرُ جُمْهُورُ النَّاسِ مَنِ ابْتُلِيَ بِهِ دُونَ الثَّانِي، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَعْرُوفٌ، وَالْمَدَارُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَفَاءَةِ عَلَى الْعُرْفِ الْقَوْمِيِّ وَالْوَطَنِيِّ لَا عَلَى تَقَالِيدِ بُيُوتِ شُرَفَاءِ النَّسَبِ وَالْجَاهِ وَكِبْرِيَائِهِمْ، فَمَا يَعُدُّهُ الْجُمْهُورُ إِهَانَةً لِلْمَرْأَةِ تَكُونُ بِهِ مُضْغَةً فِي الْأَفْوَاهِ وَعَارًا عَلَى بَيْتِهَا فَهُوَ الَّذِي يُبِيحُ لِأَوْلِيَائِهَا الْمَنْعَ مِنْهُ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَضَلُ سَبَبًا لِمَفْسَدَةٍ شَرٍّ مِنْهُ، فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ أَحْكَامِ الْمَصَالِحِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لَا تَعَبُّدِيَّةٍ، وَلَا يَجُوزُ إِكْرَاهُ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوَاجِ بِمَنْ تَكْرَهُ مُطْلَقًا.
{ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الْوَعْظُ: النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ وَالْحَقِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ وَيَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ؛ أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحُدُودِ الْمَقْرُونَةِ بِالْحُكْمِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ يُوعَظُ بِهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَتَقَبَّلُونَهُ وَيَتَّعِظُونَ بِهِ فَتَخْشَعُ لَهُ قُلُوبُهُمْ، وَيَتَحَرَّوْنَ الْعَمَلَ بِهِ قَبُولًا لِتَأْدِيبِ رَبِّهِمْ، وَطَلَبًا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَرَجَاءً فِي مَثُوبَتِهِ وَرِضْوَانِهِ فِي الْأُخْرَى، وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا ذَكَرَ حَقَّ الْإِيمَانِ كَالْمُعَطِّلِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا قَوْمَهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَلَقَّوْا أُصُولَ الْإِيمَانِ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي يَمْلِكُ مِنَ الْقَلْبِ مَوَاقِعَ التَّأْثِيرِ وَمَسَالِكَ الْوِجْدَانِ، فَإِنَّ وَعْظَهُمْ بِهِ عَبَثٌ لَا يَنْفَعُ، وَقَوْلٌ لَا يُسْمَعُ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ فِي مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ أَهْوَاءَهُمْ، وَيُقَلِّدُونَ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ وَعُشَرَاءَهُمْ.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ يَقْتَضِي الْعَمَلَ وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْأَكْثَرُونَ، وَقَرَّرَهُ الْأَئِمَّةُ الْمُحَقِّقُونَ كَحُجَّةِ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيِّ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَالْمُحَقِّقِ الشَّاطِبِيِّ وَالْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى. قَالَ شَيْخُنَا هُنَا: كَأَنَّهُ يَقُولُ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَّعِظُ بِهَذَا، يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّعِظْ وَيَعْمَلْ بِهَا فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الدِّينِ حَتَّى الْمُعَامَلَاتِ مِنْهَا يَنْبَغِي أَنْ تُسَاقَ إِلَى النَّاسِ مَسَاقَ الْوَعْظِ الْمُحَرِّكِ لِلْقُلُوبِ لَا أَنْ تُسْرَدَ سَرْدًا جَافًّا كَمَا تَرَى فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
{ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} الزَّكَاءُ: النَّمَاءُ وَالْبَرَكَةُ فِي الشَّيْءِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي {ذَلِكُمْ} هُوَ النَّهْيُ عَنْ عَضَلِ النِّسَاءِ بِقَيْدِهِ وَشَرْطِهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مَزِيدٌ فِي نَمَاءِ مُتَّبِعِيهِ وَصَلَاحِ حَالِهِمْ مَا بَعْدَهُ مَزِيدٌ يُفَضِّلُهُ، وَأَنَّهُ أَطْهَرُ لِأَعْرَاضِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ، وَأَحْفَظُ لِشَرَفِهِمْ وَأَحْسَابِهِمْ؛ لِأَنَّ عَضَلَ النِّسَاءِ وَالتَّضْيِيقَ عَلَيْهِنَّ مَدْعَاةٌ لِفُسُوقِهِنَّ وَمَفْسَدَةٌ لِأَخْلَاقِهِنَّ، وَسَبَبٌ لِفَسَادِ نِظَامِ الْبُيُوتِ وَشَقَاءِ الذَّرَارِي، مَثِّلْ فِي نَفْسِكَ حَالَ امْرَأَةٍ كَأُخْتِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلٍ عَرَفَهَا وَعَرَفَتْهُ، فَأَحَبَّهَا وَأَحَبَّتْهُ، ثُمَّ غَضِبَ مَرَّةً وَطَلَّقَهَا، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ نَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ، وَأَحَبَّ أَنْ يَعُودَ إِلَى امْرَأَتِهِ الَّتِي تُحِبُّهُ، وَاعْتَادَتِ الْأُنْسَ بِهِ وَالسُّكُونَ إِلَيْهِ، فَعَضَلَهَا وَلَيُّهَا اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ، وَاعْتِزَازًا بِسُلْطَتِهِ، أَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَضْيَعَةً لِوَلَدِهِمَا وَمَغْوَاةً لَهُمَا؟ وَمَثِّلْ أَيْضًا وَلِيًّا يَمْنَعُ مُوَلِّيَتَهُ مِنَ الزَّوَاجِ بِمَنْ تُحِبُّ وَيُزَوِّجُهَا بِمَنْ تَكْرَهُ اتِّبَاعًا لِهَوَاهُ أَوْ عَادَةِ قَوْمِهِ، كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ، وَانْظُرْ أَتَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ حَالُهُمَا وَيُقِيمَا حُدُودَ اللهِ بَيْنَهُمَا، أَمْ يُخْشَى أَنْ يُغْوِيَهَا الشَّيْطَانُ بِالْآخَرِ وَيُغْوِيَهُ بِهَا وَيَسْتَدْرِجَهُمَا فِي الْغِوَايَةِ فَلَا يَقِفَانِ إِلَّا عِنْدَ نِهَايَةِ حُدُودِهَا؟ وَهَكَذَا مَثِّلْ كُلَّ مُخَالَفَةٍ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ تَجِدُهَا مَفْسَدَةً.
وَقَدْ كَانَ النَّاسُ لِجَهْلِهِمْ بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ عَلَى كَمَالِهَا لَا يَرَوْنَ لِلنِّسَاءِ شَأْنًا فِي صَلَاحِ حَيَاتِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَفَسَادِهَا حَتَّى عَلَّمَهُمُ الْوَحْيُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يَأْخُذُونَ مِنَ الْوَحْيِ فِي كُلِّ زَمَانٍ إِلَّا بِقَدْرِ اسْتِعْدَادِهِمْ، وَإِنَّ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْأَحْكَامِ لِإِصْلَاحِ حَالِ الْبُيُوتِ الْعَائِلَاتِ بِحُسْنِ مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ لَمْ تَعْمَلْ بِهِ الْأُمَّةُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، بَلْ نَسِيَتْ مُعْظَمَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَعَادَتْ إِلَى جَهَالَةِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ وَلِهَذَا الْجَهْلِ السَّابِقِ وَلِتَوَهُّمِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ مُعَامَلَةَ النِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا هُوَ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ وَمُحَافَظَةٌ عَلَى شَرَفِهِمْ خَتَمَ هَذِهِ الْمَوَاعِظَ وَالْأَحْكَامَ وَالْحِكَمَ بِقَوْلِهِ: {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أَيْ: يَعْلَمُ سُبْحَانَهُ مَا لَكُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الزَّكَاءِ وَالطُّهْرِ وَسَائِرِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ عِلْمًا صَحِيحًا خَالِيًا مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْأَوْهَامِ وَاعْتِزَازِ الرِّجَالِ بِقُدْرَتِهِمْ عَلَى التَّحَكُّمِ فِي النِّسَاءِ؛ وَلِذَلِكَ ذَكَّرَكُمْ فِي أَثَرِ النَّهْيِ عَنْ عَضَلِ النِّسَاءِ عَنِ الزَّوَاجِ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ، الْأُولَى: إِنَّهَا مَوْعِظَةٌ يَتَّعِظُ بِهَا مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ لِأَعْرَاضِكُمُ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ كُلَّ ذَلِكَ كَغَيْرِهِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. وَهَذِهِ آيَاتُ عِلْمِهِ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّ الْبَشَرَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ لَا مِنَ الْعَرَبِ وَحْدَهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُنَزَّلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ النَّافِعَةِ بِاخْتِبَارِهِمُ الطَّوِيلِ، بَلْ عَزَبَتْ حِكْمَتُهَا عَنْ نُفُوسِ الْأَكْثَرِينَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْوَحْيُ بِهَا فَلَمْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ الذَّكِيِّ أَنْ يُقِيمَهَا عَلَى وَجْهِهَا مُلَاحِظًا فَوَائِدَهَا، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ غَيْرِ الذَّكِيِّ أَنْ يُسَلِّمَ أَمْرَ رَبِّهِ بِهَا تَسْلِيمًا وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ فَائِدَتُهَا فِي الدُّنْيَا اكْتِفَاءً بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَعْلَمُ هُوَ.
وَهَا هُنَا أُنَبِّهُ وَأُذَكِّرُ الْقَارِئَ لِهَذَا التَّفْسِيرِ بِأَنَّ مِنْ أَظْهَرِ مَا تُفَضَّلُ بِهِ هِدَايَةُ الْوَحْيِ مَا هُوَ صَحِيحٌ وَحَسَنٌ مِنْ حِكْمَةِ الْبَشَرِ: أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِالْوَحْيِ يَتَّبَعُ هِدَايَتَهُ سَوَاءٌ أَعَلِمَ وَجْهَ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا أَمْ لَا، فَيَنْتَفِعُ بِهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَأَمَّا حِكْمَةُ الْبَشَرِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا مَنْ فَهِمَهَا وَاقْتَنَعَ بِصِحَّتِهَا وَبِأَنَّ الْعَمَلَ بِهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ تَرْكِهِ.
وَالَّذِينَ يَجْهَلُونَ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ لِهِدَايَةِ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ يُفَضِّلُونَ هِدَايَةَ الْحِكْمَةِ وَالْبَشَرِيَّةِ عَلَيْهَا بِأَنَّ مُتَّبِعَهَا يَتْرُكُ الشَّرَّ؛ لِأَنَّهُ شَرٌّ ضَارٌّ، وَيَفْعَلُ الْخَيْرَ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ نَافِعٌ، وَأَنَّ مُتَّبِعَ الدِّينِ يَفْعَلُ مَا لَا يُعْقَلُ لَهُ فَائِدَةٌ. وَهَذَا غَلَطٌ أَوْ مُغَالَطَةٌ؛ فَإِنَّ الدِّينَ قَدْ جَاءَ بِالْحِكْمَةِ مُؤَيِّدَةً لِلْكِتَابِ كَمَا قَالَ: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [2: 129] فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ فَهُوَ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ فَهْمِ حِكْمَةِ الْأَحْكَامِ وَالْآدَابِ فِيهِ مِنْ عَامِّيٍّ وَبَلِيدٍ أَوْ حَدِيثِ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ لَمْ يَفُتْهُ وَقَدْ هُدِيَ إِلَى الْإِيمَانِ أَنْ يَتْرُكَ الشَّرَّ وَيَفْعَلَ الْخَيْرَ لِأَنَّ الَّذِي نَهَاهُ عَنِ الْأَوَّلِ وَأَمَرَهُ بِالثَّانِي هُوَ اللهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ وَمِنْ كُلِّ حُكَمَاءِ خَلْقِهِ.
وَمِنْ دَقَائِقِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ اخْتِلَافُ الْخِطَابِ بِالْإِشَارَةِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْوَعْظَ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ خَاصًّا بِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَّهَ الْخِطَابَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} إِلَخْ، وَأَمَّا كَوْنُهُ أَزْكَى وَأَطْهَرُ فَقَدْ جَعَلَهُ عَامًّا وَخَاطَبَ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً بُقَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ} إِلَخْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا تَوْجِيهُ الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّهَا تَكُونُ زَكَاءً لَهُ وَبَرَكَةً فِي بَيْتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَطُهْرًا لِعِرْضِهِ وَشَرَفِهِ، سَوَاءٌ أَوَعَظَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ فَاتَّعَظَ لِإِيمَانِهِ، أَمْ عَمِلَ بِهَا لِسَبَبٍ آخَرَ؛ بِأَنْ بَلَغَتْهُ غَفِلًا مِنَ الْمَوْعِظَةِ غَيْرَ مُسْنَدَةٍ إِلَى الْوَحْيِ أَوْ قَلَّدَ بِهَا بَعْضَ الْعَامِلِينَ، وَكَوْنُ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ} لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِيهِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَوْجِيهِهِ: إِنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [65: 1] لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَمْرٌ لَا يَكَادُ يَتَصَوَّرُهُ كُلُّ أَحَدٍ. اهـ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْجَمْعِ عَلَى تَأْوِيلِ الْقَبِيلِ، وَقِيلَ: لِكُلِّ أَحَدٍ، وَقِيلَ: لِمُجَرَّدِ الْخِطَابِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْمُنْقَضِي دُونَ تَعْيِينِ الْمُخَاطَبِينَ، ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْبَيْضَاوِيُّ. وَسَأَلَ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ: لِمَ وَحَّدَ الْكَافَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ} مَعَ أَنَّهُ يُخَاطِبُ جَمَاعَةً؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا جَائِزٌ، وَالتَّثْنِيَةُ أَيْضًا جَائِزَةٌ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِاللُّغَتَيْنِ جَمِيعًا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [12: 37] وَقَالَ: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [12: 32] إِلَى آخِرِ مَا أَوْرَدَ، وَهُوَ جَوَابٌ مُبْهَمٌ مُوهِمٌ؛ فَإِنَّ التَّثْنِيَةَ هُنَا وَارِدَةٌ فِي خِطَابِ الِاثْنَيْنِ، وَالْجَمْعَ الْمُؤَنَّثَ وَارِدٌ فِي خِطَابِ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الِاسْتِعْمَالِ- وَلَعَلَّهُ مُرَادُهُ- أَنَّ الْكَافَ الْمُفْرَدَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ خِطَابٍ سَوَاءً كَانَ الْمُخَاطَبُ مُفْرَدًا أَوْ مُثَنًّى أَوْ جَمْعًا وَهِيَ لُغَةُ بَعْضِ الْعَرَبِ، فَإِذَا تَحَوَّلَ الْمُتَكَلِّمُ عَنْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ عَلَى حَسَبِ الْمُخَاطَبِينَ. تَقُولُ لِلرَّجُلِ {ذَلِكَ} بِفَتْحِ الْكَافِ وَبِكَسْرِهِ لِلْمَرْأَةِ، وَذَلِكُمَا لِلِاثْنَيْنِ مُطْلَقًا، وَذَلِكُمْ لِلذُّكُورِ، وَذَلِكُنَّ لِلْإِنَاثِ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. اهـ.